تباشير هادئة لثورة صناعية خضراء

وسط شواغل ملحة تتعلق بالمناخ، قد يأتي مع إحدى التكنولوجيات المبتكرة الحل المرتقب للتخلص من الكربون في عمليات إنتاج الصلب.

في مختبر شركة بوسطن ميتال في ووبورن بولاية ماساتشوستس، يستخدم العلماء الكهرباء لفصل الحديد عن خامه دون إطلاق ثاني أكسيد الكربون. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

في مختبر شركة بوسطن ميتال في ووبورن بولاية ماساتشوستس، يستخدم العلماء الكهرباء لفصل الحديد عن خامه دون إطلاق ثاني أكسيد الكربون. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

في إحدى المباني الإدارية بضواحي بوسطن، تحدث ثورة هادئة.

فهناك، داخل مستودع نظيف وسط أنوار وبانوراما تضم آلات وأنابيب معدنية ولوحات كهربائية، يعكف العلماء على تطوير تكنولوجيا رائدة قد تغير مسار العالم الصناعي الحديث الذي نعرفه، وتهدف هذه التكنولوجيا إلى تصنيع الصلب بصورة نظيفة وخضراء.

وعلى عكس أفران الصلب التقليدية التي تنبعث منها ملايين الأطنان السامة من غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، يستخدم العلماء في شركة بوسطن ميتال الكهرباء النظيفة من مصادر الطاقة المتجددة لتحويل خام الحديد إلى صلب. وهذه التكنولوجيا، التي تسمى التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة، تنتج الصلب دون إطلاق ثاني أكسيد الكربون، مما يوفر مسارا محتملا لتخضير أحد القطاعات التي من الصعب للغاية التخفيف من آثارها السلبية على المناخ (القطاعات كثيفة الكربون مع قليل من البدائل الواضحة والعملية لخفض الانبعاثات).

المقر الرئيسي لشركة بوسطن ميتال في ووبورن، ماساتشوستس. صورة من بوسطن ميتال

المقر الرئيسي لشركة بوسطن ميتال في ووبورن، ماساتشوستس. صورة من بوسطن ميتال

وفي هذا السياق، يقول تاديو كارنيرو، الرئيس التنفيذي لشركة بوسطن ميتال، وأحد كبار خبراء هذه الصناعة الذي تقاعد في البرازيل وجاء لقيادة هذه الشركة الناشئة، "نسطر اليوم بأيدينا فصلا جديدا في صناعة المعادن والصلب، وهذا بحق ثورة في عالم المعادن".

ومن المسلم به أن بدائل الصلب ليس كثيرة في كوكب الأرض، وتمثل سبائك الصلب الثمينة العمود الفقري للمجتمع الحديث، فهي دعائم المباني التي تؤوينا، والمركبات التي تنقلنا، والآلات التي تساعدنا. ومن مصانع الصلب في جميع أنحاء العالم، يتم إنتاج نحو ملياري طن سنويا، وهو ما يكفي لبناء أكثر من 24 ألف جسر معلق (تصميم غولدن غيت)  أو 30 ألف ناطحة سحاب (تصميم إمباير ستيت). 

ولما كان الصلب غاية في الأهمية في عالم البناء الحديث، نجده أيضا من العناصر التي تساهم بشدة في التدهور التدريجي لعالمنا الحديث. وعند إنتاج الصلب، يتم حرق فحم الكوك، وهو أحد مشتقات الفحم، في أفران الصهر التي ينبعث منها الكربون، وهذه العملية مسؤولة عن انبعاث ما يصل إلى 8% من غازات الدفيئة سنويا على مستوى العالم. وإذا تصورنا أن صناعة الصلب التي تبلغ قيمتها تريليون دولار عبارة عند بلد، فإن ترتيب هذا البلد من حيث انبعاثات غازات الدفيئة هو الخامس على هذا الكوكب.

”من الحتمي والضروري التخلص من الكربون عند إنتاج الصلب، فقد قضي الأمر ولا خيار لنا“.

تاديو كارنيرو، الرئيس التنفيذي لشركة بوسطن ميتال

ومع تصاعد شواغل المناخ، وتوقع ارتفاع زيادة الصلب بمقدار الثلث في عام 2050، بدأ السباق نحو إنتاج الصلب الأخضر. وأضحت الأسواق الناشئة والزحف العمراني بها أكثر طلبا على الصلب، وعلى البلدان التوجه نحو التصنيع لتلبية الاحتياجات الأساسية للأعداد المتزايدة من السكان، وفي الوقت نفسه عليها العمل على تحقيق المستهدف بشأن خفض الانبعاثات.

تاديو كارنيرو، الرئيس التنفيذي لشركة بوسطن ميتال. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

تاديو كارنيرو، الرئيس التنفيذي لشركة بوسطن ميتال. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

وفي هذا الصدد، يقول وليام سونبورن،  المدير العالمي للتكنولوجيات المبتكرة والصناديق بمؤسسة التمويل الدولية، "البلدان النامية هي الأكثر طلبا على الصلب، وحتى  يتسنى لها تحقيق التنمية العمرانية والحضرية، تحتاج البلدان في أفريقيا وأمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا إلى زيادة إنتاج الصلب، وبالتالي من الأهمية بمكان مساعدة هذه الأسواق على التحرك سريعا نحو إنتاج الصلب دون كربون".

وفي مايو/أيار 2023 ، وقعت مؤسسة التمويل الدولية عقدا بقيمة 20 مليون دولار للمساهمة في رأس مال بوسطن ميتال وتمثل الهدف من هذا العقد في دعم الخطوة التالية في إطار جهود الشركة الرامية إلى تحقيق الجدوى التجارية من تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة. وهذا الاستثمار هو أول استثمار للمؤسسة في شركة ناشئة لم تحقق أرباحا بعد، وهو مؤشر على التزام المؤسسة بمساعدة الأسواق الناشئة والصاعدة على التخفيف من تكاليف التحول من استخدام الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة، فضلا عن دعم إنشاء قطاعات صناعية منخفضة الكربون وأكثر قدرة على الصمود. وفي أوائل سبتمبر/أيلول، أعلنت بوسطن ميتال عن غلق الجولة الثالثة لزيادة رأس مال الشركة من خلال طرح الأسهم، ليصل إجمالي قيمة المساهمات  262 مليون دولار.

وهذا المشروع واحد من الاستثمارات الأولى للمؤسسة في مجال التكنولوجيا المتطورة، وهذه النوعية من الشركات الناشئة تهدف إلى تطوير الاكتشافات العلمية أو الهندسية المعقدة وتسويقها تجاريا لحل بعض أكثر المشكلات صعوبة في العالم في مجالات مثل تغير المناخ، وصحة الإنسان، وتوفير الطاقة.

كاتي راي ، الرئيس التنفيذية لمؤسسة ذا إنجين The Engine. تصوير توني لونغ

كاتي راي ، الرئيس التنفيذية لمؤسسة ذا إنجين The Engine. تصوير توني لونغ

وفي سياق متصل، تقول كاتي راي، عضو مجلس إدارة بوسطن ميتال، والرئيسة التنفيذية لشركة ذا إنجين (The Engine)،  المتخصصة في مجال الشركات الناشئة وحلول المشكلات التي تواجه الشركات في مراحلها الأولى في جميع أنحاء العالم:  "أصبحت التكنولوجيا المتقدمة غاية في الأهمية في مواجهة تغير المناخ". وعملت كاتي وفريق عملها على طرح ابتكار بوسطن ميتال على مؤسسة التمويل الدولية، وقالت في ذلك "من غير الممكن تحفيز التغيير الحقيقي دون طرح مشروع أخضر متميز تماما عن غيره، وبالتالي، فالبرمجيات وحدها غير قادرة على التصدي لتغير المناخ، ولن يتحقق هدفنا إن لم نقم بضخ استثمارات مالية كبيرة في البداية، وعلينا استكشاف محدثات التغيرات الأساسية في هيكل التكلفة وانبعاثات الكربون ومشروعات البنية التحتية الجديدة، وعلى العالم كافة المضي في هذا الطريق، وذلك للوصول إلى التكنولوجيات المتقدمة وتحقيق النجاحات الكبرى المنشودة".

دونالد سادواي ، مخترع  تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة بشركة بوسطن ميتال، بجوار خلية شبه صناعية في الشركة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

دونالد سادواي ، مخترع  تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة بشركة بوسطن ميتال، بجوار خلية شبه صناعية في الشركة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

المسار العلمي الذي لم يسلكه الكثيرون

كأستاذ مساعد في بوسطن في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، اتجه دونالد سادواي إلى مجال استخدام الكهرباء لاستخراج المعادن. وفي مختبره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بدأ سادواي البحث في مجال استخدام الأنودات الخاملة (توصيل الكهرباء في أثناء عملية الصهر) لتصنيع الألومنيوم. وفي نهاية الثمانينيات، توصل سادواي إلى قناعة أن باستخدام الأنود الخامل، ستكون الكهرباء هي الحل للتخلص من الكربون من عملية صهر الألمنيوم وإنتاج الصلب. وعلى الرغم من هذا النجاح، لم يهتم العالم الخارجي بذلك.

ويقول سادواي "لم ترغب أية جهة في تقديم رعاية لهذا البحث"، وهو الآن الأستاذ الفخري، جون إف إليوت، لكيمياء المواد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

وفي عام 1998، اتصلت وكالة ناسا بسادواي للبحث عن طرق لإنتاج الأوكسجين على سطح القمر. وفي هذه المرحلة، كان سادواي يقوم بتجربة هذه التكنولوجيا الجديدة، التي أطلق عليها التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة، على معادن أخرى على مدى العقدين الماضيين. وباستخدام تربة شبيهة بسطح القمر من فوهة ميتيور كريتر في أريزونا، اكتشف سادواي أن أوكسيد الحديد في التربة ينتج الأوكسجين بكميات وفيرة، ويمكن أن ينتج الصلب  كأحد المشتقات.

على مدار عقود من البحث، ظل سادواي  مؤمنا بفكرته الأصلية المتمثلة في "التخلص من الكربون من خلال الكهرباء". صورة مهداة من  معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

على مدار عقود من البحث، ظل سادواي  مؤمنا بفكرته الأصلية المتمثلة في "التخلص من الكربون من خلال الكهرباء". صورة مهداة من  معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

ولكن كانت هناك مشكلة: استخدمت العملية أنود مصنوع من الإيريديوم - وهو معدن باهظ الثمن غير مناسب لإنتاج الصلب بكميات كبيرة. واستمر سادواي  مثابرا في أبحاثه، وفي عام 2010، تعاون مع أنطوان الأنور زميله في مرحلة دراسات ما بعد الدكتوراه، وحدث هذا الاكتشاف الكبير.  ومن خلال استبدال أنود الإيريديوم واستخدام أنود آخر مصنوع من الكروم والحديد  بتكلفة بسيطة، أثبت سادواي  وأنطوان الأنور إمكانية إنتاج الصلب بتكلفة أقل دون انبعاثات من خلال تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة. وتم نشر النتائج في بحث علمي متميز في مجلة نيتشر في عام 2012. وفي العام التالي، أسس سادواي وأنطوان وعالم آخر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هو جيمس يوركو، شركة بوسطن ميتال.

واستغرقت هذه الخطوات العلمية عدة عقود تحمل خلالها سادواي الكثير من التشكيك من جانب زملائه، لكنه ظل مؤمنا بفكرته الأصلية المتمثلة في "التخلص من الكربون من خلال الكهرباء".

"قال الناس عني أني مجنون، لكنني كنت على يقين أن نتائج أبحاثي العلمية صحيحة"، على حد وصف سادواي، الذي تقاعد  في عام 2022 بعد 45 عاما من التدريس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وفي هذا يقول سادواي  "أبحث دائما عن المسار الذي لا يسلكه الكثيرون وأسعى دائما إلى التميز ".

"لدي رغبة كبيرة في منح  البلدان [النامية] تكنولوجيا تسمح لها بإنتاج الصلب بمواردها الذاتية وبجهود أبنائها، وبذا تكون قادرة على رسم الطريق لمستقبلها".  

دونالد سادواي ، مخترع تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة

تباشير هادئة لثورة صناعية خضراء

لا تختلف زيارة المقر الرئيسي لشركة بوسطن ميتال، الواقعة في مبنى إداري يبعد نحو 12 ميلا شمال غرب بوسطن، كثيرا عن مشاهدة المسلسل الكوميدي الأمريكي ذي أوفيس (المكتب)، فهي تشبه إلى حد كبير ديكور هذا المسلسل، وبالشركة عدة مباني مستطيلة، ومحاطة بموقف سيارات وعدد قليل من الأشجار. لكن عند الدخول إلى الشركة ينتهي التشابه بينها وبين هذا المسلسل الكوميدي، وبجانب مساحة تضم مكاتب، نجد موظفين يطالعون شاشات الكمبيوتر ويتحاورون ويتشاورون في هدوء وهمس في مختبر أبحاث عازل للصوت بجواره مصنع تجريبي لإنتاج الصلب. وهذا المختبر الذي يضم 4 مراحل تجريبية مختلفة لتكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة نظيف وهادئ للغاية وفيما يبدو أنه لا يمت بأي صلة لمصنع إنتاج صلب. ولا صوت سوى لمروحة كبيرة في السقف.

وفي أثناء زيارته الأخيرة للمختبر، قام غيوم لامبوت، كبير العلماء في بوسطن ميتال، بعرض رسالة الشركة المتمثلة في التخلص من الكربون. وعلى شاشات الكمبيوتر في المختبر، أشار لامبوت إلى فقاعات الأوكسجين التي ترتفع  داخل الخلايا المصغرة، وفي الوقت نفسه يتم اختزال خام الحديد بالداخل إلى حديد سائل.

غيوم لامبوت، كبير العلماء في بوسطن ميتال، في مختبر  الشركة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

غيوم لامبوت، كبير العلماء في بوسطن ميتال، في مختبر  الشركة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

وبجانب المختبر، توجد محطة التجارب بسعة 25 ألف أمبير، وهي خلية شبه صناعية تبدو للعين المجردة أنها مستودع نفايات كهربية. وخلف هذه الخلية يوجد جدار من الألواح الكهربائية المعقدة حيث يتم تحويل الكهرباء النظيفة باستخدام مصادر الطاقة المتجددة ثم بعد ذلك يتم نقلها، كتيار كهربائي إلى مركز هذه الخالية. وهناك ، يتم غمر الأنود الخامل في الإلكتروليت الذي يحتوي على خام الحديد. وعند رفع درجة حرارة الخلية إلى 1600 درجة مئوية، تقوم الإلكترونات بفصل الروابط في أكسيد الحديد الموجودة في خام الحديد، وينتج عن ذلك حديد سائل نظيف وعالي النقاء يمكن أن يترسب في قاع الخلية.

وهذه الخلية شبه الصناعية التي بحجم حافلة مدرسية على وجه التقريب هي التي تجعل بوسطن ميتال متقدمة على الشركات المنافسة لها بحسب آراء الخبراء والمستثمرين. وعلى الرغم من التقدم الكبير في جميع أنحاء العالم في مجال تكنولوجيات التخلص من الكربون بالهيدروجين وغير ذلك من التكنولوجيات الموفرة للطاقة، نجد أن هناك سمة فريدة لشركة بوسطن  وتكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة تتمثل في إمكانية محاكاتها على نطاق صغير أو كبير، وهذا يعني جاذبيتها الخاصة للأسواق الناشئة التي يتوفر فيها الكثير من مصادر الطاقة المتجددة.

وعلى الرغم من أن التحليلات الأخيرة تشير إلى ارتفاع تكلفة تخضير إنتاج الصلب، تتطلب تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة تكاليف رأسمالية أولية أقل بكثير في المراحل الأولى. ومن خلال هذا الأسلوب المنهجي الذي يمكن توسيع نطاقه، تستطيع مصانع الصلب إضافة المزيد من الخلايا عند الحاجة.

وفي هذا السياق، يقول وليام سونبورن، المدير العالمي للتكنولوجيات المبتكرة والصناديق بمؤسسة التمويل الدولية، "تؤدي السمة المعيارية والمنهجية لهذه التكنولوجيا إلى خفض التكاليف الرأسمالية، وسهولة تحقيق التوازن بين العرض والطلب، وفي حالة البلدان الصغيرة، لا يتطلب الأمر مصنعا عملاقا لإنتاج الصلب، وتتيح تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة إنتاج الصلب بناء مصنع الصلب الخاص بك بدلا من استيراده من مكان آخر، وهذا هو السبب الذي يجعل هذه الخلايا، التي يمكن تجميعها ونقلها بسهولة، جذابة للغاية".

وبالعودة إلى المصنع التجريبي في ووبورن، يفتح لامبوت غطاء برميل معدني أسود كبير. وبداخل الصندوق مسحوق خشن هو خام الحديد، وهو المادة الأساسية المستخدمة في صناعة الصلب. وعلى الرغم من أن صناعة الصلب تتطلب استخدام خام عالي الجودة، يمكن من خلال تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة في شركة بوسطن ميتال استخدام خام منخفض الجودة، وهي ميزة رئيسية أخرى للأسواق الناشئة.

ويقول سونبورن: "هذه التكنولوجيا فعالة بنفس القدر مع خام الحديد منخفض الجودة، ومثال على ذلك دولة توغو التي لديها الكثير من خام الحديد منخفض الجودة، فإذا أراد هذا البلد تصنيع الصلب، فسيتعين عليه استيراده من أستراليا أو البرازيل، لكنه الآن يمكنه استخدام تكنولوجيا بوسطن ميتال".

"حتى  يتسنى لها تحقيق التنمية العمرانية والحضرية، تحتاج البلدان في أفريقيا وأمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا إلى زيادة إنتاج الصلب، وبالتالي من الأهمية بمكان مساعدة هذه الأسواق على التحرك سريعا نحو إنتاج الصلب دون كربون".

وليام سونبورن، المدير العالمي للتكنولوجيات المبتكرة والصناديق بمؤسسة التمويل الدولية

شركة بوسطن ميتال تستطيع تصنيع الصلب الأخضر باستخدام خام الحديد منخفض الجودة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

شركة بوسطن ميتال تستطيع تصنيع الصلب الأخضر باستخدام خام الحديد منخفض الجودة. تصوير جوليا شمالز/ مؤسسة التمويل الدولية

تغيير الخريطة العالمية لصناعة الصلب

قبل انضمامه إلى فريق شركة بوسطن ميتال في عام 2017 ، أمضى الرئيس التنفيذي للشركة تاديو كارنيرو، وهو مهندس معادن ، حياته المهنية بأكملها في شركة CBMM، وهي أكبر شركة لإنتاج النيوبيوم في العالم ومقرها البرازيل. وعندما جاء وقت التقاعد، وضع كارنيرو وزوجته خططا لحزم أمتعتهما والتوجه إلى الشاطئ  وشراء بعض البيجامات.

لكنه يقول ضاحكا "لم نصل إلى المتجر" ويتذكر المكالمة التي جاءته لقيادة شركة بوسطن ميتال، ويقول "الآن تركت البرازيل بشمسها الساطعة وتوجهت إلى بوسطن الجميلة، فمن الحتمي والضروري التخلص من الكربون عند إنتاج الصلب، فقد قضي الأمر ولا خيار لنا،

وتوسيع نطاق هذه التكنولوجيا في الأسواق الناشئة، مع وفرة مصادر الطاقة المتجددة، يمثل فرصة لتغيير الخريطة العالمية لهذه الصناعة بصورة تامة".

تاديو كارنيرو يتحدث عن كيف ستغير تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة بشركة بوسطن ميتال الخريطة العالمية لصناعة الصلب. (الفيديو بالإنكليزية)

وفي الماضي، ازدهرت كبرى مصانع الصلب العالمية  بسبب توفر مناجم الفحم ورواسب خام الحديد والنقل بالسكك الحديدية أو النقل عبر المسطحات المائية. واعتماد نموذج تصنيع الصلب الأخضر الخاص بشركة بوسطن ميتال سيحقق منافع كبرى للأسواق الناشئة التي تتمتع بوفرة مصادر الطاقة المتجددة.

وفي ذلك، يقول كارنيرو "مع ابتعادنا عن عصر الكربون وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ستتجه مصانع الصلب إلى الكهرباء الخضراء، وقد تتغير خريطة إنتاج الصلب بناء على توفر الكهرباء الخضراء."

ويشير كارنيرو إلى موطنه الأصلي البرازيل، التي بها أكبر مصادر للطاقة المتجددة واحتياطيات خام الحديد في أمريكا اللاتينية. وفي عام 2023، افتتحت بوسطن ميتال أول مصنع لها في البرازيل حيث يتم استخدام تكنولوجيا  التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة لاستخراج المعادن عالية القيمة - القصدير والنيوبيوم والتنتالوم - من نفايات المناجم، وهي ميزة رئيسية أخرى لهذه لتكنولوجيا التي ستحقق مصادر دخل كبيرة. وسيتم استخدام جزء من استثمار مؤسسة التمويل الدولية في الشركة لتدعيم هذا المصنع.

وفي عام 2025 ، تخطط بوسطن ميتال لإنشاء أول مصنع تجاري تجريبي وتشغيله، وعندما يتم تحقيق الجدوى التجارية منه بصورة تامة، ستقوم بإصدار تراخيص إنتاج الصلب الأخضر. والهدف هو تحقيق الجدوى التجارية في عام 2026. وستعمل مؤسسة التمويل الدولية بعد ذلك مع كارنيرو والشركة لتسريع وتيرة اعتماد هذه التكنولوجيا في العديد من الأسواق الناشئة والبلدان الصاعدة التي سيتم الاتفاق بشأنها. وتشمل هذه البلدان البرازيل،  والهند، وتركيا، وإندونيسيا، ونيجيريا، ومصر، نظرا لتوافر خام الحديد، ومصادر الطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء، والإمكانات الحالية لصناعة الصلب، فضلا عن المساندة الحكومية لسياسات التكنولوجيا النظيفة.

صناعة الصلب تتجه نحو الحياد الكربوني في المستقبل

تتخذ صناعة الصلب نهجا يتسم بالحيطة والحذر، حيث يلتزم 10 من كبرى مصانع الصلب بالحد من الكربون في المستقبل القريب، ويطالب المستهلكون بشكل متزايد بصلب أكثر نظافة، سيما وأن هناك ضغوطا على هذه الصناعة للحد من أساليب الإنتاج المسببة للتلوث واستخدام أساليب أكثر نظافة.

وتصدرت أرسيلور ميتال، ثاني أكبر شركة لصناعة الصلب في العالم ، الريادة للتخلص من  الكربون في صناعة الصلب. وتعهد الرئيس التنفيذي لها، أديتيا ميتال، الذي تولى إدارة الشركة بعد والده لاكشمي ميتال ، في أوائل عام 2021 ، أن تقوم الشركة بخفض كثافة الكربون في الصلب الذي تنتجه بنسبة 25% بحلول عام 2030.

إيرينا غوربونوفا، رئيسة صندوق إكس كارب التابع لشركة  أرسيلور

إيرينا غوربونوفا، رئيسة صندوق إكس كارب التابع لشركة  أرسيلور

وفي بداية هذا العام ، استثمرت الشركة 36 مليون دولار مع غلق أول طرح في الجولة الثالثة لزيادة رأس مال بوسطن ميتال، وهو أكبر استثمار منفرد للشركة حتى الآن من خلال صندوق إكس كارب XCarb للابتكار لتحديد أفضل تكنولوجيات التخلص من الكربون في صناعة الصلب.

وبالنسبة لإيرينا غوربونوفا، رئيسة صندوق إكس كارب، فإن تكنولوجيا بوسطن ميتال تجيب على  العديد من الأسئلة الرئيسية تطرحها كبرى شركات صناعة الصلب في إطار سعيها لاستخدام مبتكرات للتخلص من الكربون: هل لهذه التكنولوجيا أثر ملموس نحو التخلص من الكربون في هذه الصناعة؟ وهل يمكن توسيع نطاقها؟ وما هي السمات الفريدة لها، وما هي المعوقات التي تحول دون تطبيقها؟

استخدام خلية تجريبية تعمل بتكنولوجيا بوسطن ميتال للتحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة. مقطع فيديو من بوسطن ميتال

استخدام خلية تجريبية تعمل بتكنولوجيا بوسطن ميتال للتحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة. مقطع فيديو من بوسطن ميتال

ومن جانبها تقول غوربونوفا، عضو مجلس إدارة شركة بوسطن ميتال "ما قمنا به وما يمثل أكبر استثمار أولي منفرد لنا من خلال صندوق إكس كارب في شركة بوسطن ميتال يشير إلى النتائج التي توصلنا إليها، فعندما يتعلق الأمر بالتخلص من الكربون في صناعة الصلب، لا يوجد حل واحد يناسب الجميع، لكن لدى بوسطن ميتال تكنولوجيا متقدمة للغاية نرى أنها ستساعد في التخلص من الكربون وحل هذه المشكلة، ولدينا رغبة في مساندة هذه الشركة نحو تعميم هذه التكنولوجيا وتوسيع نطاقها".

وتشير غوربونوفا إلى الهند حيث تستثمر فيها شركة أرسيلور ميتال في العديد من الحلول التكنولوجية للصلب الأخضر، بوصفها سوق له مزايا تتعلق بتوسيع نطاق تكنولوجيا  التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة. ولدى الهند ثاني أكبر مصنع للصلب الخام في العالم ،  وبها وفرة من احتياطيات خام الحديد وموارد الطاقة المتجددة. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يأتي ما يقرب من خمس الصلب المنتج عالميا من الهند، مقارنة بنحو 5% اليوم.

ولم يتصور سادواي  يوما ما أن التكنولوجيا التي يعمل على اختراعها ستتوافق مع إستراتيجيات التنمية في العالم  عندما بدأ لأول مرة في تجربة الأنودات الخاملة في مختبره.

وفي زيارة قام بها مؤخرا إلى مقر الشركة في ووبورن، قام سادواي، الذي كان يرتدي خوذة ونظارة واقية، بتفقد خطوط تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد المنصهرة في الشركة. ويتذكر سادواي حينذاك، أنه كان يركز بصورة رئيسية على تطوير أسلوب أكثر كفاءة لتصنيع الألمنيوم والصلب، وليس مساعدة البشرية.

وفي ذلك، يقول أنه يشعر بسعادة بالغة لأن هذه التكنولوجيا ستفيد الاقتصادات الصاعدة والأسواق الناشئة التي ترغب في تحقيق طفرات تنموية.

ويضيف "لدي رغبة كبيرة في منح  هذه البلدان تكنولوجيا تسمح لها بإنتاج الصلب بمواردها الذاتية وبجهود أبنائها، وبذا تكون قادرة على رسم الطريق لمستقبلها".

وينظر سادواي إلى هذه الخلية شبه الصناعية التي مع الوقت قد تحدث تحولات جذرية في هذه الصناعة التقليدية التي استمرت على مدى قرون. ويقول "إن هذا بحق علم  يُنتفع به ويخدم المجتمع". 

 تاريخ النشر سبتمبر/أيلول 2023